سورة الكوثر، سورة مكية تحتل الرقم 108 في ترتيب سور القرآن الكريم، هي أقصر سور القرآن الكريم، تفسر السورة بأن أحد المشركين وصف الرسول بأنه أبتر، فرد الله عليه بأن أعطى رسوله نهراً بالجنة يدعى الكوثر، وأن المشرك هو الأبتر كما وصفه الله في الآيه { إنا أعطيناك الكوثر }، بهذه الآية الكريمة، افتتح الله سورة الكوثر، مذكراً نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمة عظيمة، ومنة كريمة، وموعود أخروي، جعله الله عز وجل كرامة لنبيه، وبشارة له ولأمته من بعده، ثم رتب على ذلك الوعد العظيم، الأمر بالصلاة والعبادة، والوعد بالنصر والتأييد { فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } ويقال أن الكوثر هي السيدة فاطمة الزهراء وأنه أحد ألقابها **** ولا يوجد دليل علي صحة القول بأن الكوثر مقصود به السيدة فاطمة الزهراء في كتب التفاسير ومنها بن كثير - القرطبي - الجلالين - والطبراني ****.
والكوثر أيضاً هو النهر الذي وعده الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأصل كلمة الكوثر يدل على الكثرة والزيادة، ففيه إشارة إلى كمال الخيرات التي ينعم الله بها على نبيه صلى الله وسلم في الدنيا والآخرة.
ولنهر الكوثر - الذي في الجنة - ميزابان، يصبان في حوض، وهو الحوض الذي يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم في أرض المحشر يوم القيامة، فنهر الكوثر في الجنة، والحوض في أرض المحشر، وماء نهر الكوثر يصب في ذلك الحوض، ولهذا يطلق على كل من النهر والحوض (كوثر)، باعتبار أن ماءهما واحد، وإن كان الأصل هو النهر الذي في الجنة.
وقد ورد في الأحاديث جملة من صفات نهر الكوثر، تجعل المؤمن في شوق إلى ورود ذلك النهر، والارتواء منه، والاضطلاع من معينه، فنهر الكوثر يجري من غير شق بقدرة الله، وحافاتاه قباب الدر المجوف، وترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ، فما ظنك بجمال ذلك النهر وجلاله، وما ظنك بالنعيم الذي حبى الله به نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أمته.
ولا تقل صفات ماء نهر الكوثر جمالا وجلالا عن النهر نفسه، فقد ثبت في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم أن ماء نهر الكوثر أشد بياضا من اللبن، وأحلى مذاقا من العسل، وأطيب ريحا من المسك، حتى إن عمر بن الخطاب لما استمع إلى تلك الأوصاف، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنها لناعمة يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (آكلوها أنعم منها)، في إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أن تلك الصفات العظمية، وتلك النعم الجليلة، ما هي إلا جزء يسير مما يمن الله به على أهل دار كرامته، ومستقر رحمته.
وجاء الوصف النبوي لماء نهر الكوثر أيضا، بأن من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا، ولم يسود وجهه أبدا، فكيف لك أن تتخيل جنة الخلد، إذا كان نهرها وماؤها كذلك !!
أما الحوض الذي يكون في أرض المحشر، فطوله مسيرة شهر، وعرضه كذلك، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء)، أي أن أطرافه متساوية، وجاء في وصف الحوض أيضا أن آنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها.
أما ماء الحوض فهو مستمد من نهر الكوثر كما سبق، فصفات الماء واحدة، كرامة من الله لنبيه والمؤمنين من أمته، حيث يتمتعون بشيء من نعيم الجنة قبل دخولها، وهم في أرض المحشر، وعرصات القيامة، في مقام عصيب، وحر شديد، وكرب عظيم.
والميزابان اللذان يصلان بين نهر الكوثر في الجنة، وبين حوض النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المحشر، لا يقلان شأنا عن النهر والحوض، فالميزابان أحدهما من فضة والآخر من ذهب، فالماء من أطيب ما يكون، ومقره من أرق ما يكون، ومساره ومسيله من أغلى ما يكون.
وقد جاءت الأحاديث النبوية تبين أن لكل نبي من الأنبياء حوضا في أرض المحشر وعرصات القيامة، فقد ثبت عن سمرة ابن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
إن لكل نبي حوضا ترده أمته، وإنهم ليتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة)، فرحمة الله في ذلك الموقف قد شملت المؤمنين من كل الأمم، فلكل نبي حوض، يرده المؤمنون من أمته، إلا أن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم يتميز بثلاثة أمور :
الأول : أن ماءه مستمد من نهر الكوثر، فماؤه أطيب المياه، وهذا لا يثبت لحوض غيره من الأنبياء، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
الثاني : أن حوضه صلى الله عليه وسلم أكبر الأحواض.
الثالث : أن حوضه صلى الله عليه وسلم أكثر الأحواض واردة، أي يرد عليه من المؤمنين من أمته، أكثر ممن يرد على سائر أحواض الأنبياء من المؤمنين من أمتهم.
ويحظى بشرف السبق في ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم من أمته فقراء المهاجرين، فعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (أول الناس ورودا على الحوض فقراء المهاجرين، الشعث رؤوسا، الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المنعَّمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد)، والسدد هي القصور الخاصة بالمترفين، فكما أنهم كانوا أفقر الناس في الدنيا، وأقلهم منصبا، وأدناهم شأنا، مع ما كانوا عليه من قوة اليقين، وصدق الإيمان، وعظيم البذل والتضحية في سبيل الله، فقد نالوا كرامتهم في أرض المحشر، بورودهم أول الناس على حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عظيم منة الله عليه في نزول سورة الكوثر، وعظيم نعمته في تكريمه بنهر الكوثر، فعن أنس بن مالك قال : (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر }، ثم قال أتدرون ما الكوثر ؟ فقلنا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة، عليه حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم – يعني يبعد عنه بعض الناس -، فأقول رب إنه من أمتي، فيقول : ما تدري ما أحدثت بعدك) رواه مسلم.
فهنيئا للمتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الواردين حوضه، فهم الفائزون يوم يخسر الخاسرون، وهم المقربون يوم يبعد المبدلون والمحدثون
هذه السورة خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – كسورة الضحى، وسورة الشرح.يسري عنه ربه فيها، ويعده باأخير، ويوعد أعداءه بالبتر، ويوجهه إلى طريق الشكر. كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان. وحقيقة الظلال والشر والكفران..الأولى كثرة وفيض وامتداد. والثانية قلة وانحسار وانبتار.
(إن شانئك هو الأبتر)
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب كوثر (وقد وردت روايات كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم -). وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه ،ويؤكد- الله – أن الأبتر ليس هو محمد، إنما هم ِشانئوه وكارهوه.
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لايمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد ؟إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجدور.
وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون.