يرى الإمام ( ع ) أن المصدر الأول لكل العلوم و المعارف حتى الوحي هو العقل وحده او منضما الى عنصر آخر كالحواس ، فإنها تدرك الأشياء المادية ، و لكنها قد تخدع الرائي ، و القول الفصل في خطئها و صوابها للعقل . فالعين مثلا
[ 11 ]
ترى الشمس صغيرة ، و يقول العقل : هي أكبر بكثير مما رأت ، و الحق معه ،
و إلى هذا أشار الإمام بقوله : « قد تكذب العيون أهلها ، و لا يغش العقل من استنصحه » . و كثيرا ما تكون العين بمعونة العقل مصدرا لمعرفة الحق ، فقد سئل الإمام عن الفرق بين الحق و الباطل ؟ فقال : الباطل أن تقول : سمعت ، و الحق أن تقول : رأيت . . و أيضا يرسل العلماء أحكاما مطلقة على أفراد النوع ما وقع منها في خبرتهم الحسية ، و ما لم يقع قياسا لهذا على ذاك ، و لا مبرر لذلك إلا العقل ، و بكلمة : ان معارف الانسان و سلوكه و أقواله و أفعاله و أحكامه بكاملها ترتبط بالعقل بشكل أو بآخر ، و لو أسقطناه عن الاعتبار لانسد باب المعرفة و الحكم على الأشياء بشتى أنواعها .
و العقل عند الإمام فطري و كسبي ، و الأول ما يدرك به الانسان بما هو إنسان إدراكا مباشرا و بلا مقدمات ، و انتقال من معلوم الى مجهول ، كإدراك الناس كل الناس العالم منهم و الجاهل ان الشيء الواحد لا يكون موجودا و معدوما في آن واحد ، و من جهة واحدة ، أو يوجد في العديد من الأماكن في آن واحد . أما الكسبي فهو عبارة عن حركة الانتقال من معلوم الى مجهول ، من مشاهد محسوس الى غائب لازم له ، و لا ينفك عنه ، كالانتقال من رؤية الهرم الى معرفة الفراعنة و تاريخهم ، و من رؤية النظام الثابت في الكون الى معرفة المكوّن و المنظّم . و العقل الكسبي يثبت الحقائق التجريبية و إليه أشار الإمام بقوله :
العقل حفظ التجارب ، و قال : « اعلم الناس من جمع علم الناس الى علمه . .
العلم أكثر من أن يحصى ، فخذوا من كل شيء أحسنه » . و في هذا رد صريح على من قال ، يجب على المسلمين أن يكتفوا بما عندهم من علم و تراث قديم » و لا يجوز أن يستوردوا أي علم من الخارج .
و العلم عند الإمام وسيلة الى العمل ، حتى العلم باللّه فان القصد منه العمل بأمره و نهيه ، و عليه يرتكز الثواب و العقاب ، و به يستدل على الإيمان . بل العلم عند الإمام بلا عمل خيال زائف ، و من أقواله « العلم مقرون بالعمل ، فمن علم عمل ،
و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل » . و نقل الدكتور زكي نجيب محمود عن فريق من الفلاسفة المعاصرين : « ان العلم و العمل موصول أحدهما بالآخر » فإذا وجدت علما مزعوما لا يجيء بمثابة الخطة المؤدية الى العمل فقل : انه ليس من العلم في شيء » . و في هذا المعنى روايات كثيرة عن أهل البيت ( ع ) ذكر
[ 12 ]
طرفا منها الشيخ الكليني في أصول الكافي .
و قول الإمام في العلم يلتقي من وجه مع الفلسفة البرجماتية الأمريكية التي تقول : ان الفكرة أيّا كان نوعها إنما تقاس بنفعها ، فالفكرة حق و صواب اذا نفعت ، و هي باطل و خطأ اذا لم تنفع ، فلا دين ، و لا علم ، و لا تربية و أدب ،
و لا فن و فلسفة ، و لا أية قيم إلا ما يسعد الفرد و يعينه على كسب المال من أي مصدر كان ، و لو على حساب الملايين .
و من هنا افترقت الفلسفة الأمريكية عن قول الإمام ( ع ) فإن المراد بالعمل عند الإمام العمل النافع الذي لا ضرر معه و لا ضرار : العمل في حدود ما أحل اللّه ،
و ما حرم ، و لا يطاع اللّه من حيث يعصى ، أما البرجماتية الأمريكية فإنها تقول :
كل الوسائل صحيحة و خيرة ما دامت تؤدي الى الهدف المطلوب ، و بكلمة : ان المنفعة عند البرجماتيين هي الانتهازية بصرف النظر عن المبادىء و القيم ، و عند الإمام هي سد الحاجة في حدود القيم و المبادىء .