كانت الأفكار القومية قد تغلغلت بشكل كبير في جسم الدولة العثمانية أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وأنشأ الداعون لهذه المفاهيم المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم، وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين، وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك والآستانة، واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني، وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني وكان لها جناح مدني هو الانتظام والترقي، واتفق الفريقان أن تكون جمعيتهم باسم "الاتحاد والترقي".[129] وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة، فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على الآستانة، وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية الباقية في أوروبا. وقد حاول السلطان عبد الحميد مقاومة هذه الجمعيات، فنادى وتمسّك بفكرة الجامعة الإسلامية، لكنه فشل أمامهم، خصوصًا بعد أن سيطروا على أكثر الجيش.[129] فرض الاتحاديون على السلطان إعلان دستور جديد للبلاد يخلف الدستور الأول أو "القانون الأساسي" الذي أعلنه سنة 1876م، فذعن لمطلبهم وأعلن الدستور، فسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية، ووجدوا أن السلطان سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم، فعزلوه وولوا أخاه محمد الخامس مكانه.[129]
مصطفى كمال "أتاتورك"، رئيس الجمهورية التركية مستقبلاً، إلى جانب بعض المقاومين الليبيين، أثناء الحرب العثمانية الإيطالية.
تولّى محمد "رشاد" الخامس العرش والدولة في احتضار، ولكنها كانت ما تزال متماسكة، وأصبح الاتحاديون هم الحكام الفعليين للبلاد، أما السلطان فكان مجرّد ألعوبة في أيديهم، وفي ذلك الوقت كانت الدولة قد أضاعت كثيرًا من بلادها في أوروبا، والأفكار القومية تنتشر يومًا بعد يوم، والبلاد في حالة إفلاس بسبب الحروب المتواصلة، والأوروبيون قد تسلطوا على مالية الدولة لاستيفاء ما لهم عليها من ديون.[139] وفي نفس السنة لاعتلاء محمد رشاد العرش، سيطرت الإمبراطورية النمساوية المجرية على البوسنة والهرسك، وبعد ثلاث سنوات هاجمت إيطاليا ليبيا، آخر الممتلكات العثمانية الفعلية في شمال أفريقيا، فقاومها العثمانيون بكل طاقتهم، لكنهم لم يستطيعوا شيءًا، فسقطت البلاد بعد سنة من المعارك الشديدة.[139] ثم جاءت حرب البلقان الأولى التي تولّى كبرها كل من مملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود ومملكة اليونان ومملكة بلغاريا، وفقدت فيها الدولة العثمانية ما تبقى لها من ممتلكات في البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة، وانسحب حوالي 400,000 مسلم من سكّان تلك البلاد إلى تركيا خوفًا من ما قد تُقدم عليه جنود العدو.[140] وفي تلك الفترة ظهرت النزعة التركية الطورانية بقوة وعنف، وسعى حزب الاتحاد والترقي إلى تتريك الشعوب غير التركية المشتركة مع الأتراك في العيش تحت ظل الدولة العثمانية، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن.[139] وفي سنة 1913م عقد الوطنيون العرب مؤتمرًا في باريس، واتخذوا مقررات أكدوا فيها على رغبة العرب في الاحتفاظ بوحدة الدولة العثمانية بشرط أن تعترف الحكومة بحقوقهم، كون العرب أكبر الشركاء في الدولة، وطالب هؤلاء أن تُحكم الأراضي العربية حكمًا ذاتيًا وفق نظام اللامركزية، وقد وعد الاتحاديون الزعماء العرب الأحرار بقبول مطالبهم، لكن ذلك لم يتحقق بفعل نشوب الحرب العالمية الأولى.[141]
[عدل]