سبب النزول: قال الشريف المرتضى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي (ص) بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل على أن المعني بها غيره، لأن العبوس ليس من صفات النبي مع الأعداء المنابذين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين.ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه اخلاقه الكريمة.وقد قال تعالى في وصفه : " وإنك لعلى خلق عظيم ".وقال : " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ".فالظاهر أن قوله " عبس وتولى " المراد به غيره. وهكذا ورد قوله تعالى : " واخفض جناحك للمؤمنين ".وقوله :" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين". وغيرهما من آيات مكية جاء الدستور فيها بالخفض واللين والرأفة مع المؤمنين ,فكيف يا ترى يتغافل النبي عن خلق كريم هي وظيفته بالذات، ولاسيما مع السابقين الأولين من المؤمنين، وبالأخص مع من ينتمي إلى زوجه الوفية خديجة الكبرى أم المؤمنين. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : ماذكروه سبباً لنزول الآيات إنما هو قول لفيف من المفسرين وأهل الحشو في الحديث، وهو فاسد ,لأن النبي (ص) قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب وقد وصفه بالخلق العظيم واللين وأنه ليس بفظ غليظ القلب؟! وكيف يعرض النبي عن مسلم ثابت على إيمانه جاء ليتعلم منه، وقد قال تعالى : " ولاتطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه "!؟ ومن عرف النبي وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة’حتى قيل : إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده حتى يكون ذلك هوالذي ينزع يده.فمن هذه صفته كيف يقطب وجهه في وجه أعمى جاء يطلب زيادة الإيمان.على أن الأنبياء (ع) منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما دونها، لما في ذلك من التنفير عن قبول دعوتهم والإصغاء إلى كلامهم.ولايجوز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم. نعم، قال قوم : إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني امية كان واقفاً إلى جنب النبي، فلما اقبل ابن أم مكتوم تقذر وجمع نفسه وعبس وتولى ,فحكى الله ذلك وأنكره معاتباً له. قال الطبرسي : وقد روي عن الصادق (ع) : أنها نزلت في رجل من بني امية كان عند النبي، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه. قال: ولو صح الخبر الأول لم يكن العبوس ذنباً,إذ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء,إذ لايرى ذلك فلايشق عليه.فيكون قد عاتب الله سبحانه نبيه بذلك، لياخذه بأوفر محاسن الأخلاق، وينبهه على عظيم حال المؤمن المسترشد، ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه. قال : وقال الجبائي: في هذا دلالة على أن الفعل إنما يكون معصية فيما بعد لا في الماضي، فلا يدل على أنه كان معصية قبل النهي عنه، ولم ينهه (ص) إلا في هذا الوقت. وقيل : إن ما فعله الأعمى كان نوعاً من سوء الأدب.فحسن تأديبه بالإعراض عنه.إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم.فعاتبه الله على ذلك. قال : وروي عن الصادق (ع) أنه قال : كان رسول الله (ص) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : مرحباً مرحباً,لا والله لايعاتبني الله فيك أبداً,وكان يصنع به من اللطف حتى كان (ابن أم مكتوم) يكف عن النبي مما يفعل به.أي كان يمسك عن الحضور لديه استحياء منه. قلت: الأمر كما ذكره هؤلاء الأعلام، من أنها فعلة لاتتناسب ومقام الأنبياء,فكيف بنبي الإسلام المنعوت بالخلق العظيم؟! فضلاً عن أن سياق السورة يابى إرادة النبي في توجيه الملامة إليه.ذلك : أن التعابير الواردة في السورة ثلاثة "عبس" ,"تولى" ,"تلهى" الأولان بصيغة الغياب والأخيرة خطاب.على أن الأولين (عبس وتولى) فعلان قصديان (يصدران عن صقد وإرادة وعن توجه من النفس).والأخير (تلهى) فعل غير قصدي (صادر لا عن إرادة ولا عن توجه من النفس).فإن الإنسان إذا توجه بكليته إلى جانب فإنه ملته عن الجانب الآخر، على ما تقتضيه طبيعة النفس الإنسانية المحدودة، لايمكنه التوجه إلى جوانب عديدة في لحظة واحدة!إنما هو الله، لايشغله شأن عن شأن! وها الفعل الأخير كان قد توجه الخطاب – عتاباً – إلى النبي، لانشغاله بالنجوى مع القوم وقد ألهاه ذلك عن الإصغاء لمسألة هذا الوارد، من غير أن يشعر به. فهذا مما يجوز توجيه الملامة إليه (ص) : كيف يصرف بكل همه نحو قوم هم ألداء ,بحيث يصرفه عمن يأتيه بين حين وآخر، وهو نبي بعث إلى كافة الناس. وهو عتاب رقيق لطيف يناسب شأن نبي هو "بالمؤمنين رؤوف رحيم ". أما الفعلان الأولان فقد صدرا عن قصد وإرادة، كانا قبيحين إلى حد بعيد، الأمر الذي يتناسب مع ذلك الأموي المترفع بأنفه المعتز بثروته وترفه في الحياة.وكان معروفاً بذلك. وعليه فلا يمكن أن يكون المعني بالفعل الثالث (غير العمدي) هو المعنى بالفعلين الأولين (العمديين). معاني الكلمات: • يزكى: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه • تصدى: تتعرض له لعله يهتدي • تلهى: أي تتشاغل • مرفوعة: عالية القدر • سفرة: أي الملائكة وقيل القراء • ما أكفره: أي لعن الإنسان ما أشد كفره • فأقبره: جعله ذا قبر • أنشره: بعثه بعد موته
الفوائد: 1. سورة عبس من السور المكية, تحدثت في بدايتها عن أمر الرسالة والإنذار ثم تحدثت عن دلائل قدرة الله عز وجل في الخلق ثم ختمت بالحديث عن الصاخة وأهوالها. 2. أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من شريفهم لوضيعهم. 3. حقيقة التوجيه في الآيات الأولى وأنه تقرير لمنهج إلهي. 4. أخلاق الملائكة كريمة وشريفة وأفعالهم بارة طاهرة حيث أنزلت وحي الله كالسفير الذي يصلح بين القوم, فينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد. 5. ذم الله من أنكر البعث ولعنه لكثرة تكذيبه بلا مستند, بل مجرد الاستبعاد والاستكبار وعدم العلم. 6. عظم قدرة الله عز وجل الذي خلق الإنسان من التراب وقدر له أجله ورزقه وعمله، شقي أو سعيد، وأن إعادته وبعثه هو أهون على الله من ذلك. 7. مهما عمل الإنسان فإنه لن يوفي حق الله عليه، ومهما شكر فلن يشكر الله حق الشكر ولن يوفيه حق الذكر, ولم يقض هذه المرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء, فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد.
هذه السورة قوية المقاطع، ضخمة الحقائق، عميقة اللمسات، فريدة الصور والظلال والإيحاءات، موحية الايقاعات الشعورية والموسيقية على السواء.
ويعالج النقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه، وهو يذكره بمصدر وجوده، وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولي ربه له في موته ونشره، ثم تقصيره بعد ذلك في أمره : (قتل الإنسان ما أكفره ! من أى شيء خلقه ؟ من نظفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبرة، ثم إذا شاء أنشره، كلا ! لما يقض ما أمره)..
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمس الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه، وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له، كتدبيره وتقديره في نشأته : (فلينظرالإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا ً. ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم)..
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض (الصاخة) يوم تجيء بهولها، الذي يتجلى في لفظها، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها، وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها : (فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة)
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها – على هذا النحو السريع – يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير. فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها.
المصدر : في ظلال القرآن - سيد قطب.
جواب سماحة السيد علي الميلاني : ليس المراد من « عبس وتولى » هو « رسول الله » لأن الله تعالى يقول له : (وإنك لعلى خلق عظيم) ولأنّه : (بالمؤمنين رؤوف رحيم) ولغير هذه الآيات الواردة في صفاته، فلا يصدر منه ما ينافيها. عصمة الأنبياء ثابتة بالعقل والنقل كتاباً وسُنّةً. أليس الله تعالى يقول : (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) ؟ فإذا كان النبي يجوز عليه المعصية والخطأ واتّباع الهوى كيف يكون الناس مأمورين باتّباعه وجعله اسوة وقدوة لهم ؟ وإذا كانت الأدلة على عصمتهم قطعية متقنة لا تقبل التخصيص فلا بدّ من حمل بعض الآيات الظاهرة في خلاف ذلك على المعنى المطابق للعصمة، نظر الآيات الظاهرة في التجسيم فإنّها تحمل على خلاف ظاهرها للأدلة القطعية القائمة على أنّ الله ليس بجسم
بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى
وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى
وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى
وَهُوَ يَخْشَى
فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى
كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
فَمَن شَاء ذَكَرَهُ
فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا
ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا
وَعِنَبًا وَقَضْبًا
وَزَيْتُونًا وَنَخْلا
وَحَدَائِقَ غُلْبًا
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا
مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ
ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ