متى يبلغ الانسان مرتبة السلم والسلام؟
لم ألاحظ منذ بدء الخليقة ونزول آدم على الأرض، وتجرؤ قابيل على قتل أخيه هابيل، من أجل شهوة، وما بذل الرسل والأنبياء من جهد كبير في تهذيب سلوك الإنسان، وإخراجه من الغي إلى الرشد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الباطل إلى الحق ومن الصراع إلى الحوار، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الشر إلى الخير، ومن الحرب إلى السلم، لحد يومنا هذا رغم مواصلة المصلحين هذا الجهد. فمازال الإنسان يخالف القانون الذي يحميه من الضرر والشريعة التي تحمي جسمه وعقله من التهلكة، فالناس يتحاربون في كل عصر وفي كل صقيع من الأرض. والأعجب من ذلك، أنهم كلما صعدوا في سلم الحضارة، زاد افتنانهم في اختراع وسائل الحرب والتخريب والتدمير، وهم لا يبتغون من الحرب إلا بسط السلطان وتوسيع الملك وإشباع نهمهم إلى الشهرة والمجد، واستبعاد الضعفاء والاستئثار بخيرات بلادهم وطالما تردّدت الدعوات إلى السلام، فأعرض الناس عن سماعها كأنما كتب عليهم ألا ينعموا بسلام دائم.
صحيح لما ظهر الإسلام دعا البشرية جمعاء إلى إيثار السلم على الحرب مهما ادلهمّت الأحداث، إلا في حالة حماية العقيدة، وصيانة الحياة، أو الدفاع عن الوطن، ففي هذه الحالات يقع ردّ الشر بمثله لمعالجة ما تعجز المثل العليا عن معالجته بالمعاملات السلمية لأن الإسلام دين سلام والقرآن يصف المؤمنين المتقين بالتسامح والمسالمة في قوله تعالى "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" "الفرقان آية 63". ويسمي القرآن الكريم الجنة دار السلام "لهم دار السلام عند ربهم" "الأنعام آية 127" ويجعل التحية فيها سلاما "تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعدّ لهم أجرا كريما" "الأحزاب آية 44"، ويبشر الأتقياء بأن الملائكة ستحييهم في الجنة بالسلام "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" "النحل آية 32".
لقد قامت الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فأبى أعداء السلام إلا الحرب والخصام فصبر النبي- عليه الصلاة والسلام- والمسلمون على الأذى، لكن عندما ازداد طغيان المشركين وعدوانهم اضطر المسلمون إلى الحرب اضطرارا لحماية عقيدتهم وأرواحهم، وذلك بعد الاستعداد الكلي لها، كما أمر الله بذلك "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" "الأنفال آية 60".
الإسلام أباح الحرب بعد اليأس من المسالمة، وليس للحرب هدف إلا الدفاع عن الدين والوطن والحياة، وهذا الدفاع يتحقق باتقاء الخطر الواقع، أو الخطر المتوقع، ولهذا لم يحارب المسلمون إلا ليردوا العدوان ولم يشهروا سيوفهم إلا بعد اليأس من مسالمة أعدائهم، مقتدين بنهي الله تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" "البقرة آية 190".
فالحرب لإعلاء دين الله الذي ارتضاه، وليست للسيطرة ولا للاحتكار ولا للغنائم والأسلاب، وفي ختام الآية تحذير من الاعتداء، لأن الاعتداء بغيض إلى الله، وإذا جنح الأعداء إلى السلام كان على المسلمين أن يسالموهم وإذا ما رغبوا في الهدنة كان على المسلمين أن يهادنوهم "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله" "الأنفال آية 61". فالسلام في نظر الإسلام هو الأصل في علاقات الجماعات، ولا يصح للحرب التي هي عمل طارئ موقوت أن تلحق الضرر بالشيوخ والأطفال والعجزة والعباد المنقطعين لعبادة الله، ولا يجوز للمسلمين أن يجيعوا أعداءهم أو يقتلوا سفراءهم، أو يعتدوا على المستأمنين في ديار المسلمين من رعايا الدولة المعادية. لقد كفل الإسلام للمغلوبين حريتهم الدينية، فلا إكراه ولا إجبار، وشرّع أعدل النظم وأرحمها في معاملة المغلوبين أو الأسرى والسبايا.
لقد شاهدنا في أعقاب الحرب العالمية الأولى منظمة الأمم المتحدة قامت كهيئة دولية تعمل من جانبها على تحقيق "تقرير المصير" للشعوب المغلوبة على أمرها، تلك التي احتلّت أرضها تنفيذا للسياسة الاستعمارية التي سادت في القرن التاسع عشر وشاهدنا في أعقاب الحرب العالمية الثانية هيئة الأمم المتحدة، التي قامت لتعلن وثيقة حقوق الإنسان، وتنص المادة الأولى منها على أن الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، ويجب أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء دون تفرقة بسبب السلالة أو اللون، أو الجنس.
ولا شك أن هذا مبدأ إنساني كريم فرح العالم بإصداره لأنه يؤمّن الجميع ويضع حدا للاضطهاد والاستغلال ولا يكون هناك اعتداء من قوي على ضعيف بل الجميع إخوة في الإنسانية يعيشون متحابين متعاونين وإن غاية ما تتطلع إليه البشرية هي أن يسود أرضها السلام، وترفرف عليها ألوية العدالة والمساواة، حينئذ يتجه كل واحد إلى البناء والتعمير وتنزاح أشباح الحروب، التي تدمّر ولا تعمّر، وتخرّب ولا تبني، ولا تجني الإنسانية من ورائها إلا التأخر والضعف والهوان.
لكن هذه النصوص لم تخلص لها الدول القوية، والتاريخ الحديث والمعاصر يشهد على ذلك، والإنسان اليوم يعيش صورا كريهة من صور التنكر لحقوق الإنسان ومن صور التفرقة العنصرية.
إزاء هذا التنكر لإنسانية الإنسان، علينا نحن المسلمين أن نزداد استمساكا بتعاليم ديننا الذي علّم الدنيا كيف تصان الحقوق وكيف تحفظ كرامة الإنسان. فقد قرّر وحدة النوع الإنساني وتساوي الجنس البشري في أصله ومنشئه فيقول سبحانه وتعالى "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" "النساء آية 1".
إن الفرق بين إنسان وآخر هو فيما يؤديه الإنسان من صالح العمل، فالتقوى صورة الإنسانية المهذبة التي وضعها الإسلام هدفا يسعى للوصول إليه كل فرد، والناس في مراحل السعي إليها يختلفون قربا وبعدا منها؛ فالإسلام أنزل السلام ووفر الأمن والاطمئنان للناس جميعا بمختلف معتقداتهم وأهوائهم، وحريص على نشر العدالة الإنسانية والمساواة البشرية ورفض الجبروت والطغيان، كما رفض الذلة والاستسلام. فمتى يبلغ الإنسان مرتبة السلم والسلام ويتخلى عن الحرب والعدوان؟ هذا من مشيئة الله، والله نسأل أن يهدي عباده إلى ما يرضيه من سلم وسلام.