عندما لف دارون بزورقه العالم بحثاً عن دليل يؤكد نظريته عن خلق الكائنات، حط به الرحال جزر غالاباكوس البكر التي تقع في المحيط الهادي، وقد لفت نظره وجود أنواع فريدة من الطيور والزواحف غير متواجدة في أماكن أخرى من العالم المعروف آنذاك، وكانت هذه آخر محطة قرر بعدها تبني ونشر نظريته المشهورة عن أصل الخلق.
وتتلخص نظرية دارون المعروفة بالنشوء والارتقاء، أن أصل الحياة بدأ من خلية ابتدائية واحدة إثر تجمع عناصر أولية موجودة في الطبيعة تحت ظروف نادرة وبنسب معينة، وبطريق الصدفة تكونت هذه الخلية الحيوية، ثم قامت هذه الخلية الابتدائية بالانقسام والتكاثر لأسباب غير معروفة، وأن الظروف البيئية ربما ساعدت على نشوء خلايا أخرى بنفس الطريقة في أماكن أخرى مختلفة من العالم.
وتنطلق تلك النظرية من عقالها لتزعم أن الظروف البيئية خلال مليارات السنين طورت تلك الخلايا لتتحول إلى كائنات عضوية، ومن ثم إلى مخلوقات بدائية نمت وتطورت بفعل الظروف البيئية المتاحة لتتحول إلى مخلوقات لا حصر لها في الماء واليابسة.
ومع ازدياد المخلوقات في كرتنا الأرضية نشأ الصراع من أجل البقاء، وتحدد أسس هذا الصراع من خلال أن البقاء للأصلح أو الأقوى.
ثم لم يقف دارون عند حد عندما طرح بأن نظريته هذه تشمل الإنسان، فقد فكر ودبر ثم قرر أن الإنسان ليس سوى سليل أحد أنواع القردة، وأن التحول التدريجي إلى الإنسان تم من خلال ظروف متسلسلة أصابت ذلك الكائن حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.
غير أن الشعور العنصري الذي أصاب علماء الدارونية جعلهم يدعون أيضاً أن الأجناس البشرية نشأت وتطورت من أنواع مختلفة من القردة إلى أن وصلت الذروة بشكل الإنسان الأبيض، وأدى هذا إلى ترسيخ المفهوم العنصري المتمثل بأن الأجناس البشرية الأخرى هي متخلفة وأقل تطوراً!
انتشار وتبني نظرية الدارونية في أوروبا نتج عنه ظهور فلاسفة وعلماء رسخت الفكرة في نفوسهم ثم ظهرت في أذهانهم على شكل تفسير جديد للتاريخ وعلوم الاقتصاد والاجتماع والنفس.
ومن خلال هذا الدعم الفلسفي، تحولت النظرية إلى واقع لفئة كبيرة من البشر، فقد ارتفع مؤشر النعرة العنصرية في أوروبا وحجة تفوق الجنس الآري على بقية الأجناس، ونتج عنه ظهور أنظمة عنصرية مثل الرايخ الثالث الذي قام بالتطهير العرقي، وجاءت فلسفتها الاجتماعية والاقتصادية لتدعم الفكرة الشيوعية من خلال الثورة البلشفية في روسيا، وثورة ماو تسي تونج الثقافية في الصين.
أمّا نتائجها المباشرة فكانت هتك أرواح وأعراض ملايين البشر بواسطة الحروب العالمية، نتيجة لتطبيق فكرتها الاجتماعية والاقتصادية. ما يهمنا معرفته أن المستوى العلمي المخبري عند نشوء هذه النظرية على يد دارون كان في مرحلة ابتدائية، فلم تُكتشف الخلية بعد، ولم يكن معروفاً عن الجراثيم والفيروسات. بل أن النظرة السائدة عن الخلية آنذاك هو كالنظرة إلى طوبة البناء الصماء التي تتشكل منها الأبنية.
بعد اختراع وتطوير الأجهزة والوسائل العلمية الحديثة تمكن العلماء من إدراك الكنه الحقيقي للخلية وعظمتها التي تفوق عظمة جميع ما أنتجه العقل البشري من معامل ومصانع. وقد أضفى اكتشاف الكروموزوم في نواة الخلية التي تحتوي على الجينات الوراثية بعداً لا يتصوره الخيال عن الإبداع الخُلقي لأصغر كائن حي، فباستطاعة تلك النواة متناهية الصغر نسخ ملايين المعلومات بدقة فائقة في غمضة عين.
أثبتت أبحاث بعض العلماء قيام العديد من علماء الدارونية بإعادة تركيب عظام بعض المخلوقات لتأكيد تلك النظرية. وعلى الرغم من الاكتشافات العلمية المذهلة في الآونة الأخيرة التي تفند هذه النظرية وتلقي بها في قمامة التاريخ، إلا أن جهات علمية معروفة لا تزال تقوم بالترويج لهذه النظرية للعامة، ويخفي هذا الاهتمام نزعة العنصرية واللادينية التي تريد الإطاحة بمبدأ وجود الخالق وما يترتب عليه من مفهوم عن سبب الخلق وسلوك يفرضه الدين الذي مبدأه الأخلاق والإيمان بيوم الحساب.
الداروينية تحولت إلى أيدولوجية تتمسح برداء العلم الذي يرفضها تماماً، فعلى سبيل المثال أظهرت الأبحاث العلمية والعملية وجود ملايين البرامج في كل كائن أرضي التي لولاها لما تمكن من أداء أي من وظائفه مهما صغرت، وفي المقابل يسّر لنا اختراع الكومبيوتر إدراك وفهم ماذا تعني تلك البرامج!
من خلال مقارنتها ببرامج الكومبيوتر ذات الاستخدامات اليومية غير المحدودة التي يقف وراءها الآلاف من ذروة العقول البشرية العلمية، الذين يقومون بإخراج تلك البرامج إلى النور ومع ذلك لا يمكن مقارنتها بالبرامج التي تحتويها أتفه خليه لأبسط كائن حيوي!!
أمّا العقل البشري فقدراته وبرامجه التي لا يتصورها الخيال هي التي أنتجت برامج مايكروسوفت التي أنشأها بيل غيتس ويكسب من ورائها الكثير، ومع ذلك هل يمكن لمعتنقي أيدولوجية الدارونية الادعاء أن أي من برامج مايكروسوفت مهما صغرت نشأت بالصدفة، وأن بإمكانها تطوير نفسها بنفسها دون تدخل بشري؟!
طبعاً ستتحول القضية إلى المحاكم وسيفوز بيل غيتس حتماً بملايين دولارات متهميه بالاحتيال!!
الأساس في دورة الحياة بكرتنا الأرضية منذ ملايين السنين هو التكامل بين المخلوقات إي الإفادة والاستفادة، أما الصراع من أجل البقاء فهو يدخل ضمن تلك المنظومة وليس مستقلاً عنها كما يدعي دارون، ومن سمات التكامل أن لا يطغى أي مخلوق على آخر، إلا أن هذا التوازن قد بدأ يختل بعد ظهور الإنسان الفجائي في الكرة الأرضية، واتخذ هذا الاختلال بعدأ كبيراً بعد ازدياد البشر، وأن ما نشاهده الآن من اختلال في التوازن الطبيعي واختفاء مخلوقات في فترة زمنية قصيرة لم يكن سوى نتيجة لما قامت به يد الإنسان بشكل مجحف وجاهل.
فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لا يدخل ضمن منظومة دورة الحياة، لأنه طارئ عليها كونه هبط الكرة الأرضية إثر قبوله عرض الأمانة من قبل خالقه، فهو سيد مخلوقات الأرض، والمتصرف بها، وخليفة الله على الأرض، إلا أنه المخلوق الوحيد الذي سيحاسبه ربه وسيضطر إلى تقديم دفاتر حساباته على ما فعله في الحياة الدنيا، أما بقية المخلوقات الأرضية فلن ينالها الحساب كونها غير مخيرة بل تسير ضمن برامج لا تحيد عنها وضعها لها خالقها، كما وضع علماء الكومبيوتر البرامج التي يستخدمها ويعلمها كل من يعمل بعالم الكومبيوتر ويعرف أنها لا تحيد عن ما خُطط لها!
تذكرت هذه الأشياء عندما شاهدت السيدة التي تقوم بأعمال النظافة، تحاول بواسطة المكنسة الكهربائية إزالة أعشاش العنكبوت المتواجدة حول النوافذ العليا فوق مكتبي مباشرة، فمنعتها وقلت لها أنني أحافظ عليها منذ سنوات كونها تحميني من الحشرات الطائرة والزاحفة، ففغرت فاها وقالت إن أعشاش العنكبوت تجلب النحس للإنسان، فكررت لها المنافع المحمودة لبيوت العنكبوت الذي يتصيد الحشرات الدخيلة، فتركتني متعجبة!
في الحقيقة لفت نظري وجود بيت عنكبوت صغير في مكتبي منذ عدة سنوات، وكنت أشاهد العنكبوت أحياناً ينزلق بواسطة حبله الرقيق والمتين من أعلى السقف بحرفة جندي المغاوير، فأتركه وأداعبه بنقره من أسفل فيرتد مرتفعاً لأعلى، وقد أدركت في وقتها أن وجوده سيمنع انتشار العديد من الحشرات، وبالفعل فقد نسج العنكبوت بيوته حول النوافذ العليا جاعلها حصوناً يصطاد من خلالها الحشرات، وعلى الرغم من اصطدامه بوجهي مراراً، إلا أنني أفسح له الطريق ليسير حيث شاء!
استخدام المزارعين للمبيدات الحشرية أضر بالمزروعات والتربة وصحة الإنسان، وعلى الرغم من قيام علماء البيئة بالكثير من الأبحاث للتعرف على دورة الحياة في الأرض ليتسنى من خلالها التعامل مع الكائنات الأرضية بوعي لا يهضم حقها في البقاء، ولا يهضم حق الإنسان في الاستفادة من نعم الطبيعة، إلا أن عجلات دورة الفناء تسير بشكل أسرع من محاولات الإصلاح والبناء، ومع ذلك تجربتي مع عنكبوت مكتبي هو مثال صغير لجدوى عملية التكامل مع الطبيعة بمخلوقاتها الفذة، وفهم لغتها التي تقوم على العمل وفق برنامج الخلق، كما وُضع أول مرة!